مؤيد الزعبي **
إذا كانت الجنسية اليوم هي التي تُحدد من نحن، وإذا كان علم دولتنا هو رمز نعبر فيه عن ولائنا وانتمائنا، وإذا كان مجتمعنا هو الحاضنة لشخصياتنا ومنه نتداخل مع مجموعة نصبح جزءًا منهم، فماذا لو قلت لك عزيزي القارئ إننا قد نصحو بعد عقدٍ أو اثنين فنجد أن الولاء الحقيقي ليس للحدود ولا للأعلام؛ بل للمنصّات التي تُدير تعليمنا، وتُشخّص أمراضنا، وتُقرّر ما نراه ونؤمن به، وهي التي تشكّل شخصياتنا وقناعاتنا وأفكارنا؟ عندها لن يكون السؤال: "ما هي جنسيّتي؟" بل: "لأي شبكة أنتمي؟" شبكة تُشبه دولةً فوق السحاب لا حدود لها، تمنح امتيازاتٍ وحقوقًا رقمية تعلو أحيانًا على امتيازات الدولة الأم، وربما سندفع أموالًا لنكون من تلك الجنسية الرقمية. فهل هذا خيالٌ علمي؟ أم أننا بدأنا نلمس ملامحه فعلًا؟ هذا ما أود أن أطرحه من خلال هذا الطرح.
إذا أدركنا أن الذكاء الاصطناعي بات يسيطر على المحتوى واللغة ويتداخل رويدًا رويدًا في أنماط التفكير والسلوكيات، فعلينا أن نعترف بأنه أصبح يمتلك قدرة غير مسبوقة على تشكيل الوعي وتوجيه السلوك، وبالتالي التأثير في السلطة والشرعية السياسية التقليدية، وهذا يعني أنّ مصدر السلطة الرمزية قد يغادر مؤسسات الدولة التقليدية نحو منصّات مهيمنة تتحكم في التدفق المعرفي والانفعالي للجمهور، بل هي من تمتلك السلطة المطلقة على بياناتنا والحقوق الكاملة في دراستها وتحليلها وإعادة استخدامها وتوظيفها. وما هو أكبر من ذلك أن هذه الخوارزميات ستتداخل في حياتنا بشكل لا يمكننا معه فك الارتباط بها، بل على العكس سيزداد هذا التداخل يومًا بعد يوم، حتى نصل إلى مرحلة نقول فيها: نحن ننتمي لهذه البرمجيات أو لتلك الخوارزميات.
قبل سنوات كنا نتحدث عن ولاءات رقمية، قاصدين بها ولاءنا لنظام التشغيل الخاص بهواتفنا؛ فالبعض لديه ولاء لنظام "الأندرويد" ويرى فيه حرية في اختياراته، والبعض الآخر لديه ولاء لنظام "iOS" ويشعر أنه في مأمن بداخله، لكن في قادم الأيام ستصبح ولاءاتنا أعمق وأكبر عندما ترتبط بنظام ذكاء اصطناعي يرافقنا في جميع مناحي حياتنا: نراه طبيبنا ومعلمنا وسائقنا ومساعدنا وصديقنا، ونجد فيه الحاضنة الشعبية والمجتمعية التي نحلم بها، حينها فقط ستخرج ولاءاتنا من حدود دولنا لتصبح فضاءً رقميًا تديره شركات ستستغل هذه النقطة، وتصبح تُشكّل سلطة أكبر وأوسع وأشمل وأكثر تعقيدًا من أي سلطة عرفناها في تاريخنا البشري.
قد يقول قائل إن هذا الطرح خيال علمي صرف، ولكن دعني أخبرك عزيزي القارئ أن ملامح الولاءات الرقمية باتت تتشكل، وهناك دول تسابق الزمن لتكون حاضنة لمثل هذه الولاءات، فمثلًا هناك في إستونيا برنامج "الإقامة الإلكترونية" الذي أُطلق عام 2014، ويمنح "هوية رقمية عابرة للحدود الجغرافية"، ويتيح تأسيس الشركات وإدارة الأعمال داخل الاتحاد الأوروبي من أي مكان في العالم، وحتى عام 2025 تجاوز عدد المقيمين الإلكترونيين 120 ألف شخص من 181 دولة، وهؤلاء الأشخاص سيكون لديهم ولاء رقمي لمن يمنحهم هذه الامتيازات، وفي المستقبل، عندما تمنحك الكيانات أو الشركات المشغّلة لأنظمة الذكاء الاصطناعي حقوقًا وامتيازات غير مسبوقة، سيصبح الولاء لها أكبر وأكثر انتشارًا.
في الحقيقة لا أستغرب في المستقبل أن تمنحك إحدى الشركات "جواز سفر رقمي" يتيح لك الحرية في التنقل؛ سواء افتراضيًا أو حتى على أرض الواقع، ويصبح هناك مواطن لخوارزمية معينة، وهذا ما يمكن اعتباره بذرة مبكّرة لمفهوم "المواطنة الخدماتية" خارج الجغرافيا، وهو يفتح الباب لأنماط ولاءٍ لكيانات رقمية تُكافئ الانتماء بامتيازات ملموسة قد تتفوق أحيانًا على ما يمنحه الجواز أو الهوية الوطنية.
هنا يبرز السؤال: هل ستكون المنصّات سلطات حاكمة تنافس الدول وشرعيتها؟ ربما تكون الإجابة أننا سنشهد صعود سلطات رقمية موازية للسلطات الحكومية التقليدية، تسلب رويدًا رويدًا شرعية الحكومات وولاءات الشعوب، وأنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على منافسة الدولة في إنتاج الهوية والانتماء، لكونها قادمة بقوة في تقديم خدمات طبية وتعليمية وخدمات لبيئة الأعمال، وبذلك ستنافس الحكومات فيما تقدمه من امتيازات، خصوصًا أن هذه الأنظمة ستكون أكثر ذكاءً وأكثر انفتاحًا وأسرع في تطوير خدماتها بما يتناسب مع المجتمعات.
ولو تمعّنا في حياتنا الحالية لوجدنا أن نصفها حياة رقمية أساسًا، ومن يملك هوياتنا الرقمية ومن سيديرها غير الذكاء الاصطناعي ومنصاته؟ ومن يضمن ألا تتحوّل هذه المنصات إلى أداة ولاءٍ قسري لمنظومة خاصة؟ هنا نلمس كيف يمكن لولاءاتٍ جديدة -بيومترية وخوارزمية ورقمية- أن تنازع الولاء الوطني.
على جانب آخر، تُظهر الأدبيات الحديثة حول "المواطنة الرقمية" انتقالًا من الحقوق والواجبات داخل الدولة إلى حقوقٍ وخدماتٍ تُمنح عبر البُنى التحتية الرقمية، وأرى أن هذا التحوّل لا يُلغي الدولة، لكنه يُجزّئ الانتماء: مواطن لدولة، و"مواطن وظيفي" لشبكاتٍ ومنصّات تمنح امتيازات وحماية وخدمات عابرة للحدود. إنه تعدّد للولاءات بدل ولاءٍ واحدٍ، والمنافسة على أشدها في جلب الولاء، في حين أن الدول والحكومات لا تعمل بجدّ لحماية الولاءات أو حتى لتعميق مفهومها، خصوصًا مع الأجيال الجديدة التي ستتعرف على ولاءات الخوارزميات، وليس هناك من يبذل جهدًا لتعريفها بالمواطنة والقيم المجتمعية الخاصة بوطنها الأم.
خلاصة القول.. لن يختفي الولاء للوطن، لكنه سيتعرّض لإعادة توزيع للحصص، ستظهر طبقات جديدة من الانتماء؛ سواء للشبكات، أو للهويات الرقمية، أو لخدمات سحابية تعيش جنبًا إلى جنب مع الانتماء القومي، والسؤال الأهم حينها ليس: هل سيتغير الولاء؟ بل: من سيكتب عقده الجديد؟ هل ستكون الدول التي ستُعيد ابتكار سيادتها رقميًا وتُبقي ولاء مواطنيها في الفضاءين الواقعي والافتراضي، أم أن الدول الغافلة ستجد مواطنيها ينسحبون باتجاه ولاءات لمنصّات "تُشغّل" حياتهم وتعطيهم امتيازات يصعب منافستها؟ الإجابة متروكة لخيالك عزيزي القارئ.
** المنسق الإعلامي ومُنتج الأخبار لصالح مجموعة الصين للإعلام- الشرق الأوسط